كتب/محمد عزيز شعبان
هل تسألت يوما لماذا يبدأون في تقديم السلطات و الشوربة قبل تقديم السمك أو اللحوم عند طلبك لوجبة كاملة في أي مطعم دخلته ؟؟, طيب هل أستوقفك يوم ما عطر مصنع من الزهور أو معجون أسنانك أو مزيل العرق كيف بدأو من ابتدعه ؟؟ , أخيرا هل فكرت في الموشحات الأندلسية البديعة التي تثير في داخلنا الحنين العظيم لزمان الوصل من جاد بها و كان صاحب السبق لها ؟؟؟
نعم يا صديقي سنتكلم اليوم عن الظاهرة الحضارية الأندلسية الشامخة (زرياب القرطبي) الرجل العربي الذي علم أوروبا الأدب و النظافة , فهاجمه العرب الأن و رفع من شأنه الأوروبيون ...
هو هو أبو الحسن علي بن نافع الموصلي ذو الأصول الفارسية و قيل الكردية ، موسيقي ومطرب عذب الصوت من بلاد الرافدي, لُقِّب بـزرياب لعذوبة صوته وفصاحة لسانه ولون بشرته القاتم الداكن، وهو اسم طائر أسود اللون عذب الصوت يعرف ب(الشحرور) , الراجح أنه ولد عام 777م في الموصل ونشأ في بغداد وكان تلميذا لإسحق الموصلي بصورة سرية إلى أن أتقن فن الغناء، وفي ذات يوم طلب الخليفة هارون الرشيد من إسحق الموصلي أن يأتي معه بمغني جديد يجيد الغناء، فأحضر إسحق زرياب فاستأذن من الخليفة بأن يغني فأذن له:
"يا أيها الملك الميمون طائره هارون راح إليك الناس وابتكروا"
إلى أن أكمل نوبته، فطار الرشيد فرحا وتعجب منه كثيرا وطلب من أستاذه إسحاق أن يعتز به، إلا أن إسحاق داخله الحسد والحقد فهدد زرياب وخيره اما ان يخرج من بغداد أو أن يغتاله، فرجح زرياب الخروج من بغداد فخرج وتوجه إلى بلاد الشام ثم إلى شمال إفريقيا وأقام ردحاً من الزمن في بلاط بني الأغلب في القيروان إلا أنها كانت مدينة جامدة لأمل فنه أو علمه بالنمو فيها لما للمدينة من طابع عسكري راجع إلى أصل بنائها فقد كانت مقرا لجيوش المسلمين في شمال إفريقيا ,إلى أن قرر التوجه إلى الأندلس. فكتب إلى أمير قرطبة أبو العاص (الحكم بن هشام) الأموي المعروف ، المعروف بالحكم الربضي، يعرض عليه خدماته، فوافق الأمير على الفور. وحين وصل زرياب إلى الأندلس كان الحكم بن هشام قد توفي ووجد خليفتهم (عبد الرحمن الثاني) أو عبد الرحمن الأوسط, وبعد أن دخل بلاط الخليفة وأصبح من حاشيته غنى بحضرته وما أن سمعه الخليفة حتى شغف به وقربه إليه وأصبح نديمه, وقربه إليه لدرجة أنه أسكنه بيتاً متصلاً بقصره لكي يستدعيه إلى مجلسه وقتما يشاء , ومنحه إقطاعا ذا غلة وافرة وراتباً شهرياً قدره مائتا دينار.
يرجع الفضل لزرياب بتأسيس أول مدرسة متخصصة ي تلعيم الموسيقى و الغناء و كانت تعرف ب(دار المدنيات) في قرطبة و كان عميدها زرياب وقد اتخذ من أبنائه وبناته وجواريه أساتذة لمساعدته على تطور فن هؤلاء المدنيات بما يحقق نهضة جديدة تناسب حياة الأندلس. وكان المنهاج الدراسي لهذا المعهد يشمل تعليم مختلف أنواع العزف، والغناء، والتلحين، والشعر بسائر عروضه، والرقص يقصده الطلاب من كل فج، العرب وغير العرب، من الأندلس وخارجها. مما كان ذا أثر عظيم بالنهوض بفنون الموسيقى والشعر في تلك البلاد التي امتد الكثير من فنها إلى أوروبا , يرجع الفضل في تعليم الجواري الغناء في عصره والعزف على العود، ومن هؤلاء غزلان وهنيدة، ومنهن منفعة جاري عبدالرحمن الأوسط و كذلك الجارية الأشهر في تاريخ الأندلس (صبح البشكنجية) جارية الحكم المستنصر بالله .
كما كان لزرياب قصب السبق في العديد من الإبتكارات في مجال الموسيقى مثل إبتكار فن الموشح , جعل أوتار العود خمسة بعد كانت أربعة و هذا جعله أجمل و أخف وقعا على النفس و أكثر كمالا , أدخل على الموسيقى مقامات كثيرة لم تكن معروفة قبله, جعل مضراب العود من ريش النسر بدلا من الخشب, افتتاح الغناء بالنشيد قبل البدء بالنقر , كما وضع أساس الغناء الأوبرالي الذي أشتهرت به أوروبا بعد ذلك .
لم يكن زرياب موسيقيا فذا و حسب بل نال نصيبا عظيما من العلوم الأخرى فقد كان عالماً بالنجوم, وتقويم البلدان وطبائعها ومناخها، وتشعب بحارها، وتصنيف شعوبها و لكن إضافته الأعظم تأتي في مجال الأداب العامة و الذوق الرفيع فنستطيع أن نقول أن زرياب هو من علم الأندلس الأداب و الذوق و أسس الحضارة و منها إنتقلت إلى أوروبا بفعل الإتصال بين الأندلس و سائر شعوب أوروبا حينها , فقد كان لزرياب إبتكارات عظيمة في مجال النظافة الشخصية , مثل معجون الأسنان و مزيلات العرق و إختراع العطور من الزهور بدلا من الدهن الذي كان يستخدمه العرب , كم علم عرب الأندلس تنويع ملابسهم بين الليل و النهار و كذلك بين فصول السنة المختلفة , مثل أن يلبسوا الأبيض الفاتح الخفيف في الصيف و الألوان القاتمة و الثقيلة و كذلك القبعات و المعاطف الفرو في الشتاء , نقول أن زرياب كان صاحب الفضل في ظهور الموضة كما نعرفها الأن , أن شخصا مشهورا في مكان ما يتبعه الناس في كلامه و مشيته و ملبسه و مأكله و مشربه و حتى قصة شعره , فقد كان زرياب هذا الشخص المشهور الذي كان مضرب الأمثال بالأناقة و التحضر و الذوق الرفيع و أتبعه الكثيرون من الشباب و حتى الفتيات في ذلك الوقت , فقد أدخل الكثير من قصات الشعر المختلفة لكلا الجنسين , كما عدّل زرياب من هيئات الثياب فقصرها، وضيق الأكمام و أعطاها ألوانا زاهية فإكتسبت هيئة جميلة كانت موضة العصر .
لم تتوقف إبداعات زرياب عند هذا الحد فقد وضع زرياب قواعد ما يعرف اليوم بالإتيكيت فقد إعتنى بتقديم الطعام و شكل المائدة و هو أول من وضع على مائدته الكثير من المناديل، هذه لليدين وهذا للشفتين وهذا للجبهة وهذا للعنق، وهو أول من لفت أنظار النساء إلى أن مناديل المرأة يجب أن تكون مختلفة اللون والحجم وأن تكون معطرة أيضا , كما أنه علم الناس الأكل في أواني من الزجاج بدلا من الفضة و النحاس و ذلك لأناقة شكلها و سهولة تنظيفها , وقد اشتهر عنه إقامة الولائم الفخمة وتنسيقها وترتيبها وكان ذلك كله النواة الأولى في فخامة قصور ملوك الأندلس وبيوت الأغنياء وأناقتهم. وفي الزي والتصميم تخير زرياب البساطة والتناسق والرشاقة، وادخل الشطرنج إلى الأندلس ومنها إلى أوروبا، و(الشاه مات) بالعربية ما زالت مستخدمة في أوروبا والعالم إلى اليوم .
و في مجال الطعام فقد وضع زرياب بعض القواعد في تقديم الطعام و هو ما تحدثنا عنه في بداية المقال ، عن أن الوجبة الكاملة يجب أن تبدأ بالسلطات و الشوربة ثم اللحوم أو الأسماك ثم بعدها الحلوة و المكسرات و هو مازال معروفا حتى الأن , كما أنه علم الناس أنواعا مختلفة من الحساء و أن حرارة الحساء لابد و ان تتناسب عكسيا مع درجة حرارة الجو فإذا كان الجو باردا شربوا حساءا ساخنا و العكس صحيح , و استحسن الناس ذوقه حتى في الأطعمة، فدلهم على صنوف محببة منها لم تكن الأندلس تدري شيئا عنها كالنوع المسمى على حد تعبيرهم (النقايا) و الذي يشبه الأن السمبوسة أو القطايف , وهو أول من أدخل إلى المطعم الإسباني طعام (الهليون) وهي بقلة لم يكن أهل الأندلس يعرفونها قبله، وقد سموها بلسانهم (الاسفراج) , إلى الآن ينسب نوع من الحلوى إليه في الشرق يسمونه (زلابيه) وهو تحريف عن (زريابيه) , و ادخل الكثير من الفواكه من المشرق إلى الأندلس لم تكن معروفة قبله مثل السفرجل و البلح .
بعد كل هذا عزيزي القارئ يتهمه شيوخ التطرف و أدعياء الإيمان أنه سبب رئيسي في سقوط الأندلس , ذلك الرجل الذي ظهر في منتصف القرن الثالث الهجري في عهد أمير عظيم من أمراء الأندلس و هو عبدالرحمن الوسط , يربطون بين إبتكارته و إضافاته في حياة الأندلسيين و الغرب الإسلامي , و بين سقوط الأندلس بعده بست قرون تقريبا متغافلين أسباب عظيمة و فرقة رهيبة بين المسلمين ليلصقوا التهمة بصاحب الحضارة , و هذا طبيعي لان التطرف و الحضارة لا يجتمعان و لنا في أوروبا العصور المظلمة مثال واضح , رحم الله زرياب القرطبي ...