كتب / محمد عزيز شعبان
تعددت الثورات عبر تاريخ الإنسانية و مهما تغييرت الأزمان و الشعوب فالإنسان واحد و الظلم واحد و مظاهر التعبير عن الغضب عند وصوله إلى منتهاه واحدة اسمها الثورة , و لكن لكل حكاية بداية فما حكاية أول ثورة عرفها التاريخ المكتوب و التي خرج فيها المصريون على الملك (بيبي الثاني) من ملوك الأسرة السادسة و الذي كان إنتهاء عهده إيذانا بإنتهاء عصر الدولة القديمة و دخول مصر عهد الإضمحلال الأول بين الأسرتين السابعة و العاشرة حتى مجئ أسرة الحادية عشر و بداية عصر الدولة الوسطى (عصر الرخاء الإقتصادي) .
تبدأ حكاية ملكنا _على الأرجح_ عام 2278ق.م عندما تولى الحكم و هو في سن السادسة كخامس ملك من ملوك الأسرة السادسة في الدولة المصرية القديمة اسمه الملكي, نفر كا رع , يعني "جميلة هي روح رع" , بتوليه الحكم في هذه السن الصغيرة أصبحت امه (عنخ إسن مري رع الثانية) الوصية عليه كما أن خاله الأمير (جاو) ووزير في نفس الوقت صاحب اليد العليا في تصريف أمور البلاد.
تولى بيبي الثاني الحكم وهو طفل صغير، لا يزيد عمره على ست سنوات وعاش حتى بلغ المئة، فيكون بذلك قد حكم 94 عاماً، وهي أطول مدة حكم في التاريخ , و عرفت فترة حكمه معرفة الطرق التجارية المؤدية إلى قلب القارة الإفريقية، وذلك من أجل القيام بمبادلات تجارية، ومن أهم الرحالة (حرخوف) حاكم الألفنتين في عصرالأسرة السادسة. قام (حرخوف) بحملته الثالثة إلى إفريقية في عهد الملك بيبي الثاني سالكاً طريق الواحات، وهو درب الأربعين المعروف، ووصل في هذه الحملة على الأرجح، إلى غربي السودان (دارفور). واستطاع الحصول على قزم أحضره معه إلى مصر، إذ كان ملوك مصر يهتمون بهؤلاء الأقزام كثيراً، كي يؤدوا رقصة خاصة ذات أهمية دينية يدخلون بها السرور إلى قلب الملك , كما بنى الملك بيبي الثاني هرمه في جنوب سقارة، وزين حجرة الدفن بنصوص الأهرام الدينية، وهو أكبر من أهرام أسلافه، وقد ألحق بالهرم معبدان لا تزال أطلالهما أكمل من أطلال معابد أسلافه. وقد عثر في إبلا في سورية على جزء من غطاء آنية مرمرية عليها اسم هذا الملك، مما يدل على وجود صلات بين مملكة إبلا والمملكة المصرية القديمة منذ القرن الرابع والعشرين قبل الميلاد .
لكن مع تقدم عمر الملك شاخت دولته و بدات علامات الشيخوخة تظهر واضحة على كل مناحي الحياة في مصر القديمة فقد اغتنم حكام الأقاليم ضعف الملك وشيخوخته، فاستقلوا بأقاليمهم، و ورثوا مناصبهم لأبنائهم، اعتبروا هذا حقاً مكتسباً لهم وليس منحة من ملوكهم. واغتنمت القبائل العمورية الفرصة، إذ صارت الحدود مفتوحة أمامها، من دون أن تجد من يدافع عنها، فبدأت طلائعها تتدفق إلى داخل الحدود المصرية , كما تمردت قبائل النوبة على الملك الشيخ الضعيف، حتى إنها تجرأت على قائد بعثته التجارية وقتلته، ولم يرسل بيبي الثاني الجيش المصري لتأديبهم، بل جاء في النصوص المصرية، أن الملك بعث (سابني) (ابن القتيل) إلى النوبة، لإحضار جثة والده (مخو) وقد استمال (سابني) النوبيين بالهدايا ليسمحوا له بالعودة بجثة والده. وهكذا يستنتج من كل ما ذكر الضعف الشديد الذي كانت تعاني منه مصر في عهد بيبي الثاني.
لم يكن عدم الإستقرار و ضعف السلطة المركزية السبب الرئيسي في الثورة و انما كان فقط القشة التي قسمت ظهر البعير بعد سنين طويلة من تفشي الفساد و الإقطاع تمثل ذلك في إعطاء النبلاء و حكام الأقاليم ملكيات زراعية ضخمة معفاة من الضرائب كذلك الحال مع المهندسين و كبار الصناع أما النصيب الأكبر من الإقطاعات كان يذهب الكهنة في صورة إقطاع أراضي زراعية بمساحات ضخمة كأوقاف للصرف على المعابد و خدامها و تعرف الأن عزيزي القارئ أين كانت تذهب الأموال , من المعروف عن المصري تدينه الشديد فكانت أموال إقطاعات المعابد تتحول إلى حكم و أقوال و مواعظ تعيين الناس على تحملهم للملك (الإله) كنوع من المسكنات قامت بدورها سنين طويلة في تقوية الصبر عند المصريين على حكامهم , و لكن مع نهاية حكم (بيبي الثاني) كان الصبر قد بلغ منتهاه و فقدت كلمات الكهنة و رجال الدين صلاحياتها و زاد الطين بله أن الآله جزت المصريين خيرا على صبرهم و أنخفض منسوب النيل و دخلت البلاد في مجاعة شديدة و أدت كل هذه العوامل إلى إنتشار الإلحاد و الأفكار المادية التي تتسأل بإستمرار عن صلاحية الدين و عن فكرة البعث و الخلود و مع تفشي الفقر و البطاله زادت نسبة الإنتحار فقد ورد في نص بردية الحكيم (إيبور) :- (أصبحت التماسيح في تخمة بما قد سلبت، إذ يذهب إليها الناس عن طيب خاطر) و مع كل هذه العوامل انفجر المصريون و _قلما يفعلون_ و لأن معظم المصريين كانوا من الفقراء و الرعاع (الحرافيش) فقد حدث ما يحذر منه دائما ( نجيب محفوظ) :- ( إحذر غضبة الحرافيش).
بدأت الثورة بمجموعة من المنشورات والشعارات كانت الأولى من نوعها فى العالم القديم، وجاء نص المنشور والمنقوش على إحدى لوحات الأوستراكا «الأرض لمن زرعها.. والحرفة لمن احترفها وليس للسماء وصاية على الأرض».
قامت الثورة فى بدايتها بهجوم الرعاع على مخازن الحكومة فقتلوا حراسها واستولوا على ما كان بها ونهبوا الأسواق والتجار، وصف الحكيم «أبيور» أحداث الثورة فى برديته التى تعتبر من أدق سجلات تاريخ الثورة المحفوظة في متحف ليدن الهولندي، المكتوبة بالخط الهيراطيقي و التي يقول فيها واصفا ما أصاب البلاد من فوضى وفساد أدى إلى سقوط الأسرة السادسة، وانهيار طبقات المجتمع بما في ذلك طبقة العمال الذين فقدوا سبل الرزق، وتفشت البطالة :- (لم يعد الناس يحرثون الحقول، وهجم الناس على مخازن الحكومة وسرقوها، واعتدوا على مقابر الملوك. صب الشعب غضبه على الأغنياء فنهبوا القصور وأحرقوها... اختفت البسمة، لا أحد يبتسم، واختلطت الشكوى التي تعم البلاد بالنحيب، حقا أصبح العظيم والفقير يقول: يا ليتني مت قبل هذا، والأطفال الصغار يقولون كان يجب ألا أكون على قيد الحياة) , كما تعطلت الزراعة كما يشير النص : (فاض النيل ولا يوجد أحد يحرث من أجل نفسه، وأصبح الناس جميعا يقولون لسنا نعرف ما الذي سيحدث في هذه الدنيا، وشحت الحبوب)، وتأثرت الصناعة : (أصبح الصناع لا يعملون، ودمر أعداء البلاد فنونها) و تكمل البردية وصفها للأوضاع المتردية : (حيث كان الفلاح لم يستطع أن يقوم بحرث الأرض دون أن يستعين بآخرين حتى يحمى نفسه من قطاع الطرق , كما أهين خلال هذه الفترة الموظفون وتوقف إبحار السفن إلى بيبلوس وبعثرت اشلاء الملوك وترك الناس أطفالهم الذين طالما تمنوا ولادتهم ولم يعد الأخ يثق بأخيه).
تأثيرات الثورة على المدى البعيد كان لها أعظم الأثر على الطبيعة الجديدة للمصري القديم و الذي أعاد صياغة مفهوم التدين من التقرب إلى الإله بالقرابيين و المعابد و الصروح و السكوت على جور الحكام و طغيانهم إلى إعلاء الفضيلة و التقرب إلى الله من باب الأخلاق و ليس المال كما أعاد صياغة مفهوم العقد بين الحاكم و المحكوم كما أورد "إيب ور" مفهومه لهذا الحاكم بقوله (من يعمل للبناء من يستطيع أن يحيل اللهب برداً و سلاماً من ليس فى قلبه حقد، وأخيراً لقد نمى فى قلب وعقل المصرى حب الوطن والارتباط به والانتماء إليه، مما جعله على امتداد العصور يبذل كل الجهد للدفاع عن تراب هذا الوطن من كل سوء) .
طويت بذلك صفحة بيبي الثاني و معه انتهت تقريبا الأسرة السادسة و معها انتهى عصر الأهرامات , عصر الدولة القديمة , إلا من صفحة أخيرة تبقت , فبعد موت بيبي الثاني تولت الحكم الملكة "نيت - أقرت" أو "نيتوكريس" التي ذكر مانيتون انها حكمت عامين.وحكي حول هذه الملكة العديد من الأساطير التي ذكرت أنها أجمل نساء عصرها وانها بانية الهرم الثالث وذكر هيرودوت بأنها حكمت البلاد وانها انتحرت بعد انتقاهما من الذين قتلوا اخاها ليضعوها مكانه , ثم أغلقت صفحة لتبدأ صفحة جديدة من تاريخ مصر و المصريين الذين طالما أكدوا دائما أنهم أكثر الشعوب صبرا على شدائدهم إلا أن ثورتهم تأتي على الأخضر و اليابس و لا تفرق بين غث و سمين و لكنها دائما ما تحدث تغييرا على الأقل سواءا على المدى القريب أو البعيد ....