مسجد المؤيد شيخ المحمودي.....مسجد بني وفاء لنذر صاحبه



كتب/محمد عزيز شعبان

   أثناء مرورك في شوارع القاهرة العتيقة فتنتقل بين شوارعها و كأنك تسافر عبر تاريخ ممتد لأكثر من أربعة عشر قرنا من الوجود الإسلامي الذي غير وجه مصر كلها و لكن تبرز الفترة المملوكية على وجه القاهرة كالبسمة المشرقة التي ترسمها المآذن الشاهقة و القباب و المزخرفة و الكثير من الخانقات و التكيات و الحمامات شاهدة على ثلاثة قرون من حكم المماليك بين الترك و الجراكسة , لابد أن يلفت إنتباهك مئذنتي باب زويلة الرشيقتين و التي دائما ما تظهرهما الصور على أنهما بنيا من أجل الباب و لكنهما في الحقيقة هما أصابع المؤيد الشيخ التي مدها إلى السماء وفاءا بنذره فأخرج لنا تحفة معمارية هي بحق فخر عمارة عهد المماليك الجراكسة و الذي قال عنها المورخ الشهير (المقريزي) :- «فهو الجامع الجامع لمحاسن البنيان، الشاهد بفخامة أركانه وضخامة بنيانه أن منشئه سيد ملوك الزمان. يحتقر الناظر له عند مشاهدته عرش بلقيس وإيوان كسرى أنوشروان، ويستصغر من تأمل بديع أسطوانه الخورنق وقصر غمدان» كما قال عنه السلطان العثماني (سليم الأول) :- (هذة عمارة الملوك) إنه يا سادة جامع السلطان المؤيد شيخ المحمودي القاطن بحي السكرية بمنطقة الدرب الأحمر بالقاهرة .

   قبل أن نأتي على ذكر المسجد وعمارته علينا أن نتكلم عن صاحبه أولا , فهو السلطان الملك المؤيد أبو النصر شيخ المحمودي الشركسي تولى السلطنة بين عامي (1412 – 1421م) خلفا للسلطان (الناصر زين الدين فرج بن برقوق) و بعد فترة إنتقالية قصيرة تولى فيها الخليفة العباسي (المستعين) مقاليد الحكم في مصر و الشام .

  جاء إلى القاهرة عبداً سنة 782هجريا - 1381م، وكان عمره اثنى عشر عاماً، مع تاجر كبير يدعى محمود اليزدى، ومنه أخذ المؤيد اسمه "المؤيد المحمودى"، اشتراه تاجر المماليك الخواجة محمود شاه البيزدى، وقدمه إلى الأمير(سيف الدين برقوق) الذي أصبح فيما بعد أول سلاطين المماليك الجراكسة ، وكان وقتها كبير الأمراء، فأعتقه واهتم بتربيته لأنه كان ذكياً، يجيد الفروسية ورمى الرمح والضرب بالسيف والمصارعة وسباق الخيل.

  وبعدما أصبح ( سيف الدين برقوق) حاكماً عام 1382م أعتق المؤيد شيخ، و بعدها تدرج المؤيد شيخ في المناصب حتى أصبح من خاصكية السلطان (الحرس الخاص) و لكن ما لبث أن اشتعل تمرد بقيادة الأمير "منطاش" حيث نزل بجنده من الشام ليخلع السلطان برقوق و نجح في تمرده و هرب السلطان (سيف الدين برقوق) الى قلعة الكرك و تم تعيين (الصالح حاجي بن شعبان) سلطانا على مصر و ألقي القبض على المؤيد شيخ باعتباره أحد أهم رجاله، ويأمر بسجنه فى "خزانة شمائل"، أحد أبشع سجون القاهرة فى ذلك الوقت، والذى لقى فيه صنوف التعذيب، لذا نذر إن خرج من هذا السجن فسوف يحوله إلى مسجد , ثم ما لبث أن نجح (سيف الدين برقوق) في العودة مرة أخرى إلى الحكم عام 1390م ليخرج المؤيد شيخ من سجنه و يترقى في مناصب الدولة ليصبح أمير عشرة ثم أميرة للحاج و المحمل في أواخر عهد السلطان (سيف الدين برقوق) .

توفي السلطان (سيف الدين برقوق) عام 1399م ليتولى أبنه (أبو السعادات الناصر فرج بن برقوق) الحكم لتدخل البلاد في دوامة المؤامرات بين الأمراء و استغلال صغر سن السلطان الجديد فقد ولى عرش مصر بعد وفاة والده وعمره 13 عاما وسادت الفتن و الاضطرابات في عهده وحدث قحط عام في البلاد مصحوبا بالوباء مما أدى إلى وفاة ثلث السكان و تكررت معاه مأساة أبيه فقد علم بأن مماليكه يتآمرون على خلعه، غادر القلعة واختفى في شوارع المدينة؛ فاستبدل أمراؤه به أخاه (المنصور عبد العزيز بن برقوق)-الذي سبق وأن عينه والده وليا للعهد- الذي حكم لمدة ستة أشهر. ثم حكم فرج بن برقوق لفترة ثانية من 1400م حتى 1412م.

   إلى جانب كل تلك الأجواء المتوترة و القلاقل و الأوبئة سوء إدارة البلاد عرف عن السلطان فرج بن برقوق بأنه كان حاكما متحجر القلب قاسي. وكان ينزع إلى الاستيلاء على ممتلكات رعاياه من الأراضي، كما كان مولعا بالشراب وغيره من الموبقات و نتيجة لكل ما سبق ثار أمراء سوريا بزعامة الأميرالمؤيد شيخ الذي هزم السلطان في بعلبك واستولى على القاهرة وانتهى امر السلطان فرج بالقتل وتولى مكانه الخليفة المستعين باللّه أبو الفضل العباسي كحل مؤقت اتفق عليه أمراء المماليك و عين الأمير المؤيد شيخ كقسيم له في السلطنة و كان ذلك عام 1412م ثم مالبث أن أستفرد المؤيد شيخ بالسلطنة في نفس و أبعد الخليفة إلى الإسكندرية و تولى مكانه أخوه داوود خليفة , أخذ الأمير شيخ لقبه المعروف بالمؤيد ليصبح السلطان (المؤيد أبو النصر شيخ المحمودي) .

   ثم يتذكر السلطان نذره القديم بتحول سجن (خزانة شمائل) إلى مسجد فشرع في بنائه عام 1415م , عين السلطان المؤيد شيخ "بدر الدين بن محب الدين الاستادار" مشرفاً على البناء، ثم عين "الأمير ططر" بوظيفة "شاد العمارة"، وتولى "بهاء الدين محمد بن البرجي" النظر على العمارة، وكان المؤيد يمر بنفسه بين الحين والآخر لمتابعة أعمال البناء. ومن البنائين المشاركين في أعمال العمارة "محمد بن القزاز" الذي تولى إقامة المنارتين الشرقية والغربية , فاشترى قيسارية الأمير سنقر الأشقر وعدة دور وحارات مجاورة للسجن وهدمها جميعها عام 1415م ، ثم بدأ حفر الأساسات ، و بدأ البناء فبدأ في منتصف 1416م و أشهد السلطان على نفسه أنه وقف هذا المسجد لله تعالى، ووقف عليه عدة مواضع بمصر والشام. ثم نقل الباب النحاس الكبير من مدرسة السلطان حسن ودفع ثمنهما 500 دينار، وعلل البعض عملية النقل تلك بأن هذا الباب لم يكن منتفعاً به بسبب سد باب المدرسة في عهد السلطان برقوق، وقيل أنه نقل بناءً على اقتراح المهندسين، وفي نظير ذلك وقف على مدرسة السلطان حسن قرية قها بالقليوبية. بلغت النفقات أربعين ألف دينار ولم ينته المسجد بعد، ونقل إليه مكتبة كبيرة كانت بالقلعة، وكذلك خمسمائة مجلد أهداها له كاتب السر ناصر الدين محمد البارزي , و أقيمت به صلاة الجمعة ولم يكتمل منه سوى إيوان القبلة. وفي عام 1417م هدمت الأماكن اللازمة لبناء الميضأة بشارع تحت الربع، وتمت عمارتها في في منتصف العام ذاته ، وبلغت النفقات إلى آخر رمضان 820هـ/1417م نحو سبعين ألف دينار. فيما قام السلطان المؤيد بتعيين المدرسين للمسجد في 1419م لتدريس المذاهب الأربعة والحديث والقراءات والطب وذلك بينما لا تزال العمارة مستمرة بالمسجد. في 21 شوال 822هـ/1419م احتفل بافتتاح المسجد ولم يكتمل آنذاك بناء القباب بعد، وأمر السلطان المؤيد بإعداد سماط عظيم وأن تملأ فسقية الصحن بالسكر، وأنعم على الخطيب والمدرسين بحضور كبار رجال الدولة وابنه الصارمي إبراهيم. ولما مات الصارمي إبراهيم في 1420م دفن بالقبة البحرية وهي تحت الإنشاء، ولحق به أبوه السلطان المؤيد في 1421م ودفن أيضاً بالقبة البحرية قبل أن تكتمل، واستمر العمل بتلك القبة حتى اكتملت في رمضان 824هـ/1421م، وإلى ذلك الوقت كان كثير من ملحقات المسجد لم يشرع في بنائها كما هو مخطط مثل القبة القبلية وبيوت الصوفية بالخانقاه .

وصف المسجد :- 

كان السلطان الملك المؤيد شيخ ملكا شُجاعا مُهابا مِقداما عارفا بالحروب جوادا مُحِبا لأهل العلم مبجلا للشرع مذعنا له وكان موسيقارا بارعا وخطيبا، بسيط الملبس والمعيشة يختلط بالشعب كأنه منهم. كان ملكا قويا فسيطر على أرض الشام والعراق وأرض الحجاز وأجزاء من اليمن وأجزاء من ليبيا والسودان وكان خليفة المسلمين ولكن كان متواضعا جدا وكان يعيش حياة بسيطة

   وعند الدخول من باب المسجد الرئيسي نجد على اليسار سبيل للمياه كان يستخدم قديما في إرواء ظمأ رواد المسجد وعابري السبيل ويتمتع المسجد بصحن داخلي ضخم نصفه مسقوف وهو بجوار المحراب والمنبر ويقع أمام المنبر جزء منه مرتفع عن الأرض كان يقف عليه المبلغ وذلك للترديد وراء الإمام في الصلوات لكي يسمعه الناس على طول إمتداد المسجد ويتميز المسجد بقبة داخلية ضخمة يبلغ إرتفاعها تقريبا 40 مترا ويتوسط صحن المسجد ميضاة دائرية كان المصلون ولا زالوا يستخدمونها في أغراض الوضوء ورواق القبلة مغطى بسقف خشبي تعلوه زخارف نباتية ليس لها بداية أو نهاية وأسفل الزخارف شريط كتابي عليه آيات قرآنية مكتوبة بالخط الثلثي المملوكي مطلية بماء الذهب وجميعها تحث علي اقامة فريضة الصلاة .

وتعلو الشبابيك الرئيسية للمسجد شبابيك عليا مصنوعة من الجبس الأبيض وبها زجاج معشق بالألوان وكان لمجموعة المؤيد شيخ ثلاثة مآذن إثنان منها فوق باب زويلة واللتان تشكلان الآن أبرزمعالم البوابة ومئذنة ثالثة مختلفة الشكل قرب المدخل الغربي ولكنها إختفت في القرن التاسع عشر الميلادى.

ويضم المسجد أربع واجهات الواجهة الشرقية منها هي الواجهة الرئيسية المحتفظة بكيانها الأصلي وهي مرتفعة وتزينها وزرات رخامية في أعتاب نوافذها كما غطى كل شباكين من شبابيكها بمقرنص واحد ويقع المدخل الرئيسي للمسجد في الطرف الشمالي وبابه من الخشب المصفح بالنحاس المكفت بالذهب والفضة نقلهما المؤيد شيخ من مدرسة السلطان حسن كما أسلفنا القول وما يزال إسم السلطان حسن منقوشا على هذا الباب الذي يعتبر من أجمل وأدق الأبواب النحاسية في زمانه وهذا الباب يؤدي إلى دركاة سقفها مرتفع على هيئة مصلبة حجرية وبها تربيعتان من الرخام مكتوب في كل منهما بالخط الكوفي المربع آية الكرسي وعلى يمينه ويساره بابان الأيمن يؤدي إلى طرقة مفروشة بالرخام على يسارها مزيرة عليها حجاب من خشب الخرط عليها تاريخ إصلاحه عام 1308هجرية الموافق عام 1890م وتنتهي هذه الطرقة بباب يؤدي إلى مؤخرة الرواق الشرقي والباب الثاني على يسار الدركاة يؤدي إلى قبة شاهقة الإرتفاع مبنية بالحجر وحلي سطحها بزخارف جميلة .

وقد ظل المسجد قائما حتي زمان حكم الدولة العثمانية لمصر وحتي أواخر القرن الثامن عشر الميلادى وفي أثناء فترة ولاية أحمد باشا علي مصر كان هناك مجموعة من المتمردين علي الحكم إحتمت بالمسجد فأمر الوالي بضربهم بالمدفعية ونتج عن ذلك أن تهدمت ثلاثة أروقة من المسجد وقامت هيئة الأوقاف بزراعة المكان بعدد من أشجار الزينة والفاكهة لحين دخول المسجد مرحلة الترميم ومؤخرا قامت وزارة الثقافة في عهد الوزير الأسبق فاروق حسني بترميمه و فتحه للزيارة عام 2007م

أحدث أقدم