نفيسة البيضاء ....عاشت في الظل و ماتت في الذل


كتب/محمد عزيز شعبان

  سبيلُ سعادةٍ ومرادٌ عزٍ وإقبال لمحسنة رئيسة

يُسرُك منظرٌ وصنع بديع وتَعجبُ من محاسنِه الأنيسة

جري سلساله عذبٌ فرات فكم أحيت به مهجا بئيسة

نؤرخه سبيل هدى وحسُنَ لوجه الله ما صنعت نفيسة

هذا ما نقش على سبيل السيدة نفيسة خاتون الواقع بالطرف الجنوبي من شارع المعز لدين الله الفاطمي داخل باب زويلة، وتحديدا في المنطقة التي كانت تعرف إجمالا باسم "السكرية" , فمن هي؟ و ماقصة السبيل ؟

 نفيسة قادن بنت عبد الله البيضاء (أم المماليك) ولدت عام 1743م , هي جارية شركسية اشتهرت باسم نفيسة البيضاء ، و جاء ذكرها في تاريخ الجبرتي و فيه يقول: (إن ظهور أمر نفيسة الجركسية بدأ عندما دخلت في حريم علي بك الكبير، فأحب الأخير هذه الجارية الشركسية وأُعجِبَ بها، وبنى لها داراً تطل على بركة الأزبكية في درب عبد الحق , غير أن المملوك مراد وقع بدوره في هوى نفيسة، فلما أراد محمد أبو الدهب خيانة علي بك الكبير وتحدث إلى المملوك مراد في ذلك، اشترط عليه الأخير نظير موافقته على الخيانة أن يسمح له بالزواج من هذه الجارية. فلما قُتِلَ علي بك الكبير عام 1773م تزوج مراد هذه الحسناء و سميت بعد ذلك على إسمه نفيسة المرادية .

 عاشت نفيسة البيضاء مع مراد بك الذي حكم مصر إلى جانب إبراهيم بك زهاء 20 سنة و كانت حينها من أثرى سيدات مصر , و تمتعت باستقلالية في إدارة تجارتها وثروتها، ولعبت أيضاً دور السند والمستشار لزوجها مراد بك في الشأن العام، وحاولت في أكثر من مناسبة الحد من آثار المظالم التي ارتكبها زوجها بحق المصريين، إذ يحكي عبد الرحمن الجبرتي ("عجائب الآثار في التراجم والأخبار"، الجزء الثاني) أن مراد بك "أخذ الشيء من غير حقه وأعطاه لغير مستحقه" , كما كانت نفيسة تعارض زوجها مراد بك وهو مطلق السلطان على مصر، في مصادرة أموال التجار الأوروبيين وإرهاقهم بالضرائب والغرامات. وكانت هذه التصرفات من أسباب أو ذرائع الحملة الفرنسية على مصر.

 كانت نفيسة , نفيسة في طباعها حيث كانت نبيلة وكريمة وموهوبة وذكية، حتى ذكر كاتبٌ معاصر لها "أنها كانت تعرف كتابات شعراء العربية كما لو كانت العربية لغتها الأصلية برغم أنها لم تتعلمها إلا في وقت متأخر من حياتها"، وربما كانت تعرف الفرنسية إلى جانب قدرتها على القراءة والكتابة بالتركية والعربية.

نفيسة و الحملة الفرنسية 

  جاءت الحملة الفرنسية الى مصر عام 1798م و عرفت العلاقات بينها و بين نابليون في البداية ودا حيث استضافت نابليون بونابرت على العشاء في قصرها، وتلقت في تلك المناسبة هدية عبارة عن ساعة مرصعة بالألماس.ولكن بعدها تراوحت علاقة المرأة بنابليون بونابرت بين المد والجزر، فقد تَعيّنَ عليها أن تدفع فدية ضخمة تعادل نحو مليون فرنك مقابل حق الاحتفاظ بممتلكاتها.، نابليون أعلن حتى بعد مغادرته مصر أنه "سيظل صديقاً إلى الأبد" لهذه المرأة، حتى إنه بعث وهو في قمة مجده، أمراً إلى قنصل فرنسا في مصر، بأن يبذل كل جهده لحمايتها ورعاية أمرها .

  و من الحكايات الطريفة بينها و بين زوجها (مراد بك) ما ذكره الكاتب الفرنسي لاكروا عن المذكرات التي أملاها نابليون في منفاه في جزيرة سانت هيلانة حيثجاء فيها : (أن مراد بك لما عاد من البحيرة إلى الجيزة منهزماً أمام الحملة الفرنسية، صعد إلى قمة الهرم الأكبر، وأخذ يتبادل الإشارات الضوئية بالفوانيس مع زوجته نفيسة وهي فوق سطح منزلها في الأزبكية وتناقل الناس ذلك حتى سمعت به، فخشيت على نفسها من الفرنسيين، فذهبت إلى منزل نابليون، وطلبت مقابلته، فاستقبلها بكل احترام، وأكد لها أنه لا يحفل بهذه المسألة، وأنها لو أرادت أن تلتقي بزوجها لما تردد في مهادنته يوماً وليلة حتى يلتقيا، وكان الزوج مراد بك آنذاك هارباً من وجه الحملة الفرنسية. ولعل نابليون أراد بهذه المجاملة أن يتخذ من السيدة نفيسة وسيلة للتأثير على زوجها ليقبل الصلح مع الفرنسيين ويتوقف عن مقاومتهم في الصعيد.

  حين هُزِمَ جيش مراد بك أمام القوات الفرنسية في موقعة الأهرام في 21 يوليو تموز عام 1798، فر مع فلول قواته إلى الجيزة و منها إلى الصعيد فتحتم على المرأة أن تدير شئون نفسها و بيتها و تجارتها , وهو عبءٌ غير يسير على امرأة هرب زوجها عملت نفيسة بذكاء على حماية الأملاك الضخمة الخاصة بها وبزوجها، وبسطت حمايتها على كثير من نساء المماليك المنكوبين، وواست عدداً كبيراً من الفقراء الذين نُكِبوا في الحملة الفرنسية من أهل القاهرة، ودفعت كثيراً من الغرامات التي فرضها الفرنسيون على المصريين ولم يستطع غالبيتهم دفعها، ونالت بذلك احترام المصريين والأجانب .

 بعد فترة قصيرة يبدوا أن مراد بك سئم حياة القتال في الصعيد و اشتاق إلى زوجته التي كان لها الدور الكبير في الصلح الذي حدث بين مراد بك و كليبر في الفيوم حيث تصالح الإثنين على على توقف القتال بينهم على ان يحكم مراد بك الصعيد بإسم الجمهورية الفرنسية , وتعهد مراد بك من جانبه بتقديم النجدة اللازمة لمعاونة القوات الفرنسية إذا تعرضت لهجوم عدائي أياً كان نوعه، وأن يمنع أي قوات أو مقاتلين من أن يأتوا إلى القاهرة من الصعيد لمحاربة الفرنسيين، وأن يدفع مراد لفرنسا الخراج الذي كان يدفعه من قبل للدولة العثمانية، ثم ينتفع هو بدخل هذه الأقاليم.

  ثم ما لبث أن توفي مراد بك في إبريل عام 1801م متأثرا بإصابته بمرض الطاعون و بعدها بفترة قليلة خرجت الحملة الفرنسية من مصر و بدا ان الإنجليز قد بسطوا نفوذهم بمساعدة الدولة العثمانية على مصر إلا أن نفيسة إستطاعت بحكمة الحفاظ على مكانتها و تجارتها و على العلاقات الجيدة بينها و بين من في يدهم الحكم , كما واصلت نفيسة بثبات سياسة حماية المماليك وأسرهم من النظام الجديد -الذي كان شديد العدائية تجاههم- مثلما فعلت في ظل الاحتلال الفرنسي. وباتت تعرف في تلك الفترة باسم "أم المماليك".

  وحين تولى حكم مصر الوالي العثماني أحمد خورشيد باشا عام 1804، أساء إليها إساءاتٍ بالغة، وطلبها يوماً إلى القلعة مقر حكمه ووجّه إليها بعض التهم الباطلة، بينها اتهام بالتدبير لثورة في مصر، وأنها استعانت بكثير من الجواري يوزعن المنشورات ضده، وضد حكم المماليك والباشوات. وكان رد نفيسة عليه بالقول:إن السلطان وعظماء الدولة رجالاً ونساء يعرفونني، ويعرفون قدري، حتى الفرنسيون، أعدائي وأعداؤك، لم أر منهم إلا التكريم والاحترام، أما أنت فلم يوافق فعلك فعل أهل دولتك ولا غيرهم.

غضب أحمد خورشيد باشا من تلك السيدة، فاقتادها إلى السجن، الأمر الذي أثار غضب من يدينون لها بالفضل وبالمال، إذ كانت غاية في الكرم والشهامة. وقد ظلت هذه السيدة، حتى في أيام محنتها، ترعى بمعروفها وبرها، أسراً كثيرة أصابها العناء والفقر بعد أن كانت كريمة ميسورة. وامتدحها المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي خلقاً وسلوكاً وشجاعة. وعندما اعتُقِلَت في بيت السحيمي حاولت الهرب ليلاً، لكنها لم تفلح، وظلت تنتقل من عذابٍ إلى هوان إلى فقر حتى نسي الناس اسمها ورسمها.

 لقيت نفيسة أشد المحن والكوارث على يد محمد علي بعد أن تولى حكم مصر عام 1805، فقد صادر محمد علي ما بقي لها من مال وعقار، وعاشت بقية أيامها في فقر وجهد، لكنها واجهت ذلك كله بصبر وقوة عزيمة، ولم تفارقها مروءتها ولا علو نفسها ولا إباؤها.

وماتت نفيسة البيضاء عجوزاً فقيرة، بعد أن كانت ملكة على مصر، وذلك في يوم الخميس 19 إبريل نيسان عام 1816 في بيتها الذي بناه لها علي بك الكبير. ووريت نفيسة الثرى إلى جوار قبر زوجها الأول علي بك الكبير في الإمام الشافعي.

سبيل و كتاب نفيسة البيضاء

  أنفقت نفيسة الكثير من أموالها على أعمال الخير، فقد قامت بإنشاء وكالة تجارية يجاورها مكان لسكن فقراء الحرفيين، وألحقت بهما سبيلا للماء يعلوه كتاب لتعليم الأطفال اليتامى القرآن الكريم ومبادئ القراءة والكتابة.

وكان الغرض من بناء هذا السبيل هو توفير وتقديم مياه الشرب للمارة كعمل خيري، حيث كان العاملون بالسبيل يقومون بملأ الأكواب من أحواض رخامية ويقدمونها للناس المارين في الخارج، حيث كان الماء يأتي من صهريج تحت الأرض مليء بماء النيل الذي كانت تجلبه الجمال، ويختلف هذا السبيل عن باقية الأسبلة في أن صهريجه لا يوجد أسفله وإنما أسفل مبنى مجاور.

يطل "سبيل نفيسة البيضاء" على الطريق العام، وتقع واجهة السبيل والكُتاب على القصبة العظمى للقاهرة، ويتكون السبيل من الصهريج، الذي تعلوه حجرة التسبيل التي تحوي أحواضًا رخامية لتسبيل المياه، ويغلق على واجهة الحجرة ثلاثة شبابيك معدنية نحاسية مقوسة يتقدمها رف رخامي لوضع كيزان الشرب عليه لسقاية المارة.

ويوجد على جانب السبيل لوحة رخامية مصاصة تم تخصيصها لشرب الأطفال وكبار السن عليها كتابات نصها "يا وارد الماء الزلال الصافي، اشرب هنيئا صحة وعوافي".

و"تزخر واجهة السبيل والكتاب بروائع وجماليات الزخارف الحجرية والرخامية والنحاسية والخشبية من الوحدات الهندسية والنباتية المجسمة التي انتشرت في العصر العثماني التركي بمصر والمتأثرة بالطرز الأوروبية الفنية في عصر النهضة بالقرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين".

وتكمن أهمية موقع هذا السبيل والكتاب في أنهما مشيدان في مبنى من طابقين يلاصق وكالة نفيسة البيضاء، وقد أقيما على شارعٍ رئيسي بالقرب من باب زويلة، حيث كانت ينطلق موكب الحج السنوي إلى بيت الله الحرام، وفقا لما جاء مقال (أوقاف النساء: المرأة، المعرفة، السلطة) - جزءمن مشروع لإعادة تاريخ المرأة المسلمة لزينب أبو المجد.......

أحدث أقدم